الأربعاء، 20 مايو 2009

قراءة للناقد سلمان زين الدين - صحيفة النهار اللبنانية




نازح عن سماء الـرياض- لمصطفى سعيد -رواية الخـيانات المتبادلة


في "نازح عن سماء الرياض"، الجزء الأول من "ثلاثية خل الصبار" للكاتب الكردي السوري مصطفى سعيد ، الصادر لدى "الدار العربية للعلوم ناشرون"، يرصد الروائي شبكة من العلاقات الاجتماعية القائمة على سلَّم قيم مضطرب يشكِّل المال القيمة العليا فيه، ويروح أطراف هذه الشبكة يتربَّص بعضهم ببعض، وتكثر الخيانات في ما بينهم، وتغدو القيم الأخلاقية في أدنى درجات السلَّم.ينتمي العالم المرجعي الذي تحيل عليه الرواية تاريخياًّ إلى ما بعد اكتشاف النفط وما رافق ذلك من تحوّلات جذرية في سلَّم القيم، فحلَّت قيم السوق محلَّ قيم الصحراء، وتسنّم المال رأس السلّم، وتحوّل إلى إله تهون في سبيله كل الذنوب، وتُنتهك من أجله كل الخطوط الحمر. غير أن هذا الإله لا يلبث أن يلعن عبّاده ويحوّلهم إلى ضحايا. في هذا العالم المرعب ينقضّ الشريك على شريكه، وتخون الزوجة زوجها، ويتآمر الإبن على أبيه، ويقضي الكفيل على مكفوله، ويتواطأ العامل على ربّ العمل من دون حسيب أو رقيب. ترصد الرواية هذا النمط من العلاقات من خلال حكاية بندر، رجل الأعمال السعودي، الشخصية الرئيسية في الرواية، والشخصيات الأخرى المرتبطة به بسبب أو بأخر. وهي حكاية يختلط فيها الإحسان بالإساءة، والوضوح بالخديعة، والخيانة بالغدر، والندم بالمرارة، والذنب بتأنيب الضمير. بين ليلة وضحاها، يجد بندر ابن الخامسة والعشرين عاماً نفسه يتربّع على ثروة كبيرة لمجرّد كفالته رجل الأعمال السوري شكيب والشراكة معه، فينقل أسرته من الفقر إلى الغنى، ويدرس في أرقى الجامعات الأميركية، وينغمس في موارد اللذة. وحين يعود إلى بلاده، وبدلاً من مكافأة الشريك الذي يدين له بالثروة، يوسوس له شيطان المال فيطرده ويلفّق له قضية اختلاس استولى بموجبها على ثروته، فيتم ترحيله خارج البلاد. لم تشفع لشكيب توسّلاته الكثيرة للحصول على ورقة تخلية سبيل تخوّله العودة لجمع ديونه، فيموت متحسّراً على أربعة عشر عاماً من الكدح. غير أنه قبل أن يفعل، يتضرّع إلى الله أن يُري الكفيل ما لم يره بشر. وهنا، تفكك الرواية جوانب من علاقات الكفيل بالمكفول القائمة على الاستغلال، وتنتقد سوء الفهم والاستعلاء والنظرة الخاطئة بين الأشقاء، فبندر الكفيل يرفض شراكة شكيب المكفول، وهذا لا يرى فيه سوى كتلة نقدية ويمارس استغلالاً من نوع آخر.في بدايات الرواية، يقدم الروائي/ الراوي بندر القصيلي شخصية جذابة تجذب الانتباه وتستقطب الآخرين؛ فهو رسام، مثقف، "يؤمن بالحريات ويعشق الألوان، مغرم بالحضارات ويفهم الحياة جيّداً..." (ص23)، يساعد الآخرين، ويدعم مشاريع البحث العلمي. وذات فجر، يراه الراوي متسكّعاً على الرصيف في حيٍّ دمشقي شعبي، شاحب الوجه، أصفر اللون، جاحظ العينين، حزيناً، رثّ الملابس، يشتري مخدّراً من دراجة عابرة، فيدرك أن ثمة انقلاباً طرأ على حياة الرجل، ويروح يبحث عن سر هذا الانقلاب.الراوي الذي يختفي خلفه الروائي أو يتماهى به هو كاتب قصة ورواية، وثمة أكثر من قرينة لفظية في النص على أنهما واحد. يستيقظ فضوله القصصي فينبري لاكتشاف سر التغير الذي طرأ على بطل الرواية. ولذلك، يتقرّب من بندر في محاولة لسبر قلبه، ويستعين بصديقه عزت المحامي المتمرن فيسرق له ملف الرجل، ويستمع إلى بعض المحيطين به، ويشاهد بعينيه حركاته وسكناته وتصرفاته في لحظات معينة. هكذا، يشكّل المقروء والمرئي والمسموع مصادر لجمع شتات مأساة بندر القصيلي. ثمة خيوط من المأساة رواها بندر بنفسه للراوي الأساسي، وهنا يستخدم الكاتب تقنية تداخل الرواة، فثمة راوٍ أصلي يصغي الى راوٍ فرعي وينسجان معاً الحكاية، وهناك خيوط شاهد تمظهرها بتصرفات معينة، وهناك خيوط سمعها، ومن هذه الأخيرة السر الكامن وراء انكسار الرجل وانهياره.وسواء أكانت خيوط الحكاية مقروءة أم مسموعة أم مرئية، فهي تبرز رجلاً نادماً أشدّ الندم على ما فعله بشريكه ذات يوم، يغرق نفسه في شرب الحشيشة والخمر، يبيع بيته ومقتنياته الثمينة بأسعار بخسة، يحسّ بالهزيمة والخيانة، يتشاجر مع "ابنه" الطامع بأمواله، يخونه "ابنه" مع زوجته الثانية المطلّقة، ويزمع على الرحيل والموت في بلاد غريبة.هذه التمظهرات لم تكن لتطفو على السطح لولا السبب الذي يؤدي إلى انهيار الرجل، وهو أنه يعلم في مرحلة متقدمة من العمر أنه لا ينجب، وأن "أولاده" من زوجته الأولى هم أولاد زنى، وأنه كان زوجاً مخدوعاً حتى لحظة انهياره. وهذا هو سر الانقلاب الذي يكتشفه الراوي في نهاية الرواية.ليلة رحيله يقيم بندر القصيلي لقاءً في بيته للأصدقاء وفيهم المصري والمغربي والكويتي والسوري والأميركي، وفي اللقاء يقوم بتمثيل دور الملاك ميكال في مشهد يوم القيامة، يمتشق السيف مهدّداً، متوعّداً، معنِّفاً الجميع لتأليههم الحكام وخضوعهم للظلم. ثم تتحول الجلسة إلى جلسة تحضير أرواح وغرق في أنواع المسكرات وشجار بين الحاضرين. ولعل الكاتب يصطنع هذا المشهد الواقعي - الغرائبي الذي يتم فيه انتقاد الحكام الآلهة وخنوع المحكومين العبيد كنوع من التقيّة الروائية. فما يصدر عن السكران والمعطَّل العقل من قول يُحلّه من المسؤولية. ولعله يومئ من جهة ثانية إلى أن اللقاءات العربية سواء بين الأفراد أو المؤسسات كثيراً ما تطغى عليها المناكفات والغيبيات، وتغيب عنها المقاربات العقلية والعلمية للقضايا المطروحة، وقد تؤول إلى الخلاف والصراع.بعد أن يغادر بندر بيته إلى جهة مجهولة، يكتشف الراوي أن من اشتراه هو "ابنه" المزعوم تركي وزوجته المطلّقة لبنة. وفي هذا إشارة واضحة إلى أن الخيانة مستمرة.في "نازح من الرياض"، يصطنع مصطفى سعيد تقنيات شتى لبناء روايته؛ فيعتمد تقنية التشظي في سرد الحوادث ولا يقدمها متسلسلة متعاقبة، ويترك للمتلقي أن يجمع شظايا الحكاية من النص الروائي. ويستخدم تقنية الحلم - الكابوس أحياناً ليرهص بحوادث تالية تنسجم معه. ويوظّف تقنية الرسالة في إضاءة الشخصية أو الحدث. وهو يزاوج بين السرد والوصف فيرصد السرد حركة الحدث، فيما يصوّر الوصف حركة المكان أو الشخصية، وقد يضيء الوصف الفضاء الذي تدور فيه الحوادث أو الشخصية التي يتمحور حولها الحدث. يفعل الكاتب ذلك بلغة روائية حية، متحركة، لا ينتقص منها سوى كثرة الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية المتناثرة في النص. وعلى الرغم من ذلك، يقدم نصا روائيا محبوكاً بدراية، هو جزء أول من ثلاثية يغري بانتظار الجزءين الآخرين.
سلمان زين الدين

صحيفة النهار

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

من يجرؤ على تهديدك

تهديد بترحيلك ولا وشو

غير معرف يقول...

حتى هذه الساعة ماني بفاهم شي